للعبـــــوديـــــة أيضــاً مــــذاق... يستطيبه أهلـــها
عصفور عذب الصوت ، بديع المظهر
. يرى الكون بعينيه اللطيفتين من خلف
قضبان تتشابك أسلاكه ، فتأتيه أشعة الشمس من خلاله فاترة ومنكسرة . يعتاد نقر حبات
القمح التي تلقى له قبل أكلها فيكسر الحبة
كسرتين ، يأكل الأولى ويتبعها بقطرة ماء من الأنبوب المثبت بالقضيب ثم يأكل الأخرى ، ويبدأ الكَرة من
جديد.
يتقافز على قضيب الحديد المعلق في
وسط القفص ، فيتحرك القضيب يميناً ويساراً. ثم بأصابعه الدقيقة يتشبث بجدران القفص
و سقفه . يراقب ما حوله ويتفحص غصن الشجرة المطل عليه من خلال نافذة واسعة في
منتصف جدار الغرفة التي يحتل ركنها البعيد قفصه .
مرة كل صباح يُفتح باب القفص لتمتد
يد تملأ الإناء الصغير بحبات قمح وتسكب الماء عبر الأنبوب المثبت على جانب القفص .
تكثر رفرفات العصفور في القفص كأنه
يحتج على روتينٍ ضاق منه ذرعاً ..ينظر لأشعة الشمس المنسابة من النافذة عبر القضيب
، يسمع أصوات العصافير . يفرد جناحيه ، يحاول أن يتجاوز القفص فيصطدم بالقضيب
ويسقط .
يصرخ بأعلى صوته فتأتي صرخاته
تغريدات تسرُ من حوله .
يمر الوقت ...باب القفص يُفتح كل
يوم ... تمتد اليد تعطي الماء والحَب وتمنع ما هو أجمل وأثمن.
عصفور صغير يكافح القضيب بسلاحه
الوحيد ، ينقره مرات متتالية حتى تنفذ قواه ويسقط أسفل القفص .. رغم ضعف منقاره ،
ورغم صلابة الحديد إلا أنه لم يمل المحاولة ولم يشعر بالوهن .
أصبحت رفرفاته وصرخاته ونقره
للقضيب روتين يومي يؤديه بعناد وانتظام..
فُتح باب القفص ، امتدت اليد تعطي
الماء والحب ..رفرف العصفور ...صرخ ..نقر القضيب ..كر وفر ...ثم كرر الأمر ... نقر
اليد فتراجعت للخلف .... الباب أمامه مفتوح ، لمح النور رفرف بجناحيه .. تقافز
..تجاوز الباب فرد جناحيه على آخرهما،
امتدت اليد نحوه ..راوغها بكل قوته
.. دار في الغرفة ثم اتخذ من النافذة درباً إلى السماء ...انطلق نحو الفضاء ...
طار بعيدا ، حلق بانطلاق كأن السماء بحر هادئ وهو سبّاح ماهر يجدف بجناحيه عبر
الهواء .. ارتفع كثيرا ، خفق جناحيه مرات ومرات ، فتخلل الهواء ريشه وداعب جسده الصغير
.
انتقى أعلى قمة تراها عيناه واستقر فوقها يراقب الكون والكائنات .. مكث
ساعات يتنقل بين القمم ويشدو بأحلى النغم . .. كأنه يريد في تلك الساعات أن يعوض
ما فاته عبر سنوات ..
لكن الجوع جاءه متربصاً ، فبحث عن
قوتٍ فوجد بعض الثمرات ، نقرها ثم تركها يبدو أنه اعتاد مذاق واحد لا يستطيع أن
يغيره ...
رقد بسكونٍ على أحد الفروع ،جاب
المكان ببصره ، لا طعام يستهويه .
أتى الليل سريعا ببرده ووحشته ،
بحث عن مكان دافئ فلم يجد ، لم يستطع في يوم واحد أن يصنع لنفسه عشاً يقيه البرد ويكون له فيه مأمن . على نفس الفرع
بات ليلته ينتظر شروق الشمس ودفئها . وعندما أتى الصباح لم يدعه الجوع يتمتع ببهاء
الصبح ودفء الشمس . طار عبر الفضاء لكن متعة التحليق التي كانت بالأمس ذهبت حيث
أدراجها ..
استمات في البحث عن حبة قمح كالتي
كانت تلقى له دون عناء في القفص ، وليفتش عن مكانٍ دافئ يأويه من البرد ويكون له
فيه مأمن من طير يعاديه أو زاحفة تؤذيه .
أنهكه الجوع والبحث ...
مرة أخرى شارفت الشمس على المغيب
.. من أعلى قمة ناظرت عيناه النافذة المشرعة وداعبت ذاكرته الصغيرة حبة القمح
بكسرتيها ودفء القفص... اقترب من النافذة ، وقف على حافتها ...
كل شيء ما يزال كما هو أنبوب الماء
والحَب والدفء والأمن ... للحرية ثمن لم يقوَ على دفعه ومسئولية لم يعتد منذ كان
فرخاً تحملها ..
عاد وانزوى في ركنه المعهود..لملم
جناحيه وتناسي فردهما ، وتناسى روتينه المنتظم من صراخٍ و نقرٍ..فقد تعلم كيف يجعل
منقاره بعيدا عن قضبان القفص وكيف يجعل
رفرفاته هادئة خانعة ..
في الصباح امتدت اليد من جديد
لتعطي الحب و الماء وتغلق الباب بثقة.
زينة زيدان الحواجري
كتير من الاحيان روتينا اللي بنحاول نهرب منه و واقعنا اللي بنحاول نغيره وما بنرضى فيه بعد التغيير بنكتشف
ردحذفانه هو الافضل و بنصير نعاني لنرجعله..قد نرضى بعدها و قد نعود للسخط عليه
جميل جدا و استوقفتني اكثر من فقره ...كالعاده رائعه ﻛﻠﻤﺎﺗﻚ
صديقتي ويسبر
حذفالروتين المعتاد يقتل كل جديد
وادمانه يعني عدم التقدم..
كل الود صديقتي
إنه التلذذ بجلد الذات بالوهم الجميل ..يحمل مريديه نياشين من فخر زائف من بطولات وردية عششت في ردهة عقولهم المتوقفة عن إبصار المعنى والوجود والسمو الفكري النبيل، ..لا يبصرون أبعد من أرنبة أنوفهم ليعيشو دوامة تكرار الحديث مع النفس الأمارة بالسوء ..ليكون الظلام بديلا. هكذا حال من يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ..
ردحذفأخي طارق
حذفليكون الظلام بديلا
حقيقة هناك من يستبدلون النور بالظلام لأنهم لم يستطيعوا دفع ثمن الحرية
سعيدة بتواجدك
كل الشكر
الروتين = ليس دومًا سيئًا!
ردحذفقرأت الإدراج و أعجبتني أكثر من عبارة/لفتة و لكن العنوان هو أجمل سطر .. برأيي
للعبودية أيضا مذاق ..يستطيبه أهلها
حذففمن لا يستطيع تحمل المسئولية يعود بنفسه للوراء
ويرضى بما هو أدنى
ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
تحيتي لك أخي هيثم
بكل تأكيد
حذفجميلة جدا يا زينة، وأكثر ما أعجبني الكلمة الأخيرة التي ختمتي بها القصة (بثقة)، نعم إنها ثقة الجلاد بضحيته الماسوشية المتلذذة بشتى صنوف الإذلال
ردحذفدمتي بود
ثقة
حذفوثقة تامة بأن المتمرد صار عبدا
وأن المحتج صار خانع
دوما أبتهج جدا بتواجدك
وبكتاباتك
قد يكون الروتين حياة للبعض ومميتا للبعض الآخر
ردحذفلله فى خلقه شئوووووووون
جميل اسلوبك يا زينه
دمت بخير
صديقتي رؤى
حذفالروتين بعدما ندمنه
يستحيل تغيره
أشكرك صديقتي
رائعة جداً أختى زينة ..
ردحذفكثيرون هم مدمنى العبودية والمتلذذين بها الذين لا يقوون على دفع ثمن الحرية.
ورغم حب البعض للعبودية ..
إلا أن هناك جانب آخر يكمل الصورة ..
وهو " حب الاستعباد " الذى يدمنه آخرون .. فيكمل كل طرفٍ منهما الآخر.
http://marketingandmedia.blogspot.com/2012/06/blog-post_22.html
تحياتى لشخصك الكريم ولقلمك المبدع.
أخي محمد
حذفلقد لخصت القصة عبر تعليقك
وهذا المقال حب الاستعباد لقد كان من أكثر المقالات التي قرأتها وزادتني اقناعا بالحقيقة وبلورت الفكرة لدي حول العبودية..
لقد جاءت قصتي بإيحاء من خلال مقالك
كل الود والتقدير
الرائعه زينه
ردحذفالتعليقات التي سبقتني عبرت عن كل ما اود ان اقوله هنا...لكن لا بد أن اسجل اعجابي بأتقانك للقصه القصيره كما تتقنين الشعر تماماً...ابدعتي :)
نيسان صديقتي الغالية
حذفأشكر وجودك وكم يسرني أن القصة قد نالت إعجابك
فأنتِ بالنسبة لي لستِ كأي أحد
ودوما وجودك ورأيك يهمني جدا
كل الود
يقال ان قوّة المتغطرس لا تصنعها الاّ ذلّة الخانعين !
ردحذفتحياتي لهذا الاسقاط الهادف .
http://zaman-jamil.blogspot.com
أخي منجي
حذفمقولة صحيحة فالعبد هو من يسد الناس على نفسه
وهو الذي يشعرهم بأن حجمهم أكبر من حجمه
تحيتي لك أخي الكريم
وتغلق الباب بثقة.
ردحذفيخطر ببالي سؤالين الأول - أيجب أن يكون مع الحرية مشقة و صعاب ؟
السؤال الثاني للجميع - ماذا لو كنت مكان العصفور ماذا ستفعل ؟
أخي أحمد ( آدم )
ردحذفأهلا بك صديقا عزيزا عبر مدونتي
أشكر واجدك الكريم
إجابتي على تسؤالك الأول/
هو كما لمست من خلال قصتي أن العصفور هو رمز للشعوب التي ثارت وتحررت لكنها لم تحمل مسئولية ثورتها و لم تجد في نفسها الصبر كي تحيك لنفسها أعشاشا وبيوتا آمنة ..لذا فمنهم من يرى في الرجوع للوراء غنيمة وأن الحال السابق أفضل
نعم الحرية دوما هناك مسئولية تستوجبها و تضحية لأجل تحقيقها ودون دفع الثمن فلن يكون حرية
السؤال الثاني/
دعني أصيغ السؤال بطريقتي : ماذا لو كنت مكان تلك الشعوب؟
لو كنت مكانها وأنا جزء منها فعلا فعليّ أن أجهز مسبقا وأهيأ الظروف المناسبة للخطوة القادمة وأتحمل المسئولية كي أصنع حريتي التي لا ترتبط إقتصاديا بأحد (حبة القمح _ ومكان السكن )
العبرة والخلاصة من القصة
أنه يجب تهيئة الشعوب لتحمل المئولية وللحرية قبل أن نحررها أو تحرر أنفسها..
كل التقدير والإحترام أخي الكريم