بئر ذكريات... جزء3
حَدَثَ في مثل هذا اليوم 26أيلول 1996م
استشهد في هذا اليوم حوالي خمس وستون شهيد في الضفة الغربية وقطاع غزة على
أثر فتح نفق تحت المسجد الأقصى وعُرف هذا اليوم بانتفاضة النفق..
لمزيد من المعلومات عن انتفاضة النفق اتبع الرابط التالي http://fm.shab.ps/showthread.php?t=3986
هنا
هنا
في ذكرى رحيل الشمس..
أخي الشهيد / رزق زيدان الحواجري
في مثل هذا اليوم خرج من بيته في الصباح الباكر قبلَّ أبناءه وذهب إلى عمله..
منذ الصباح شعر باختلاف هذا اليوم عن باقي الأيام . فجأة احتلت صورة أمه كل الأشياء من حوله ، شعر بشوقٍ شديد ، أحس بعيون أخوته الصغار ينادونه ، غير وجهته واتجه لمنزل والده. دخل البيت شعر بأن كل شيء مختلف باب البيت والغرف والستائر، أخوته الصغار يجهزون أنفسهم للمدرسة وأمه تعدُ طعام الفطور ، أبيه كعادته يستمع لقرآن الفجر ويتبعه بنشرة أخبار...دخل على أمهِ مباشرة ، قبلَّ يدها ، عانقها :
- أمي إني أشتاقك...
كنتُ صغيرة وقتها أتيت إليه ركضاً عانقته .. وضعت يدي في جيبه وانتشلت منها قطعة نقود ، جذبها مني بقوة وأخبرني بأنه سيشترى لي بها لعبة .. عقلي الصغير لا يدرك إلا ما أمامه :
- أريد قطعة النقود الآن وفيما بعد تشتري لي لعبة.
بشغف طفولي استمتُ في فتح يده وأخذ النقود لكني لم أستطع ، حملني ووضعني على كتفه وأخذ يرفعني للأعلى ويحضني بحنان ثم همس بأذني أن أختار لعبة وهو سيأتي بها آخر النهار. ثم دفعني لغرفتي لأستكمل ارتداء زي المدرسة .
طلب من أمي كوب شاي وجلس مع أبي ..
رغم صغري طالعتُ شوقاً عميقاً في عينيه ...
أخذتني أختي التي تكبرني من يدي وخرجنا للمدرسة ، وقبل مغادرة المنزل ناديتهُ باسمه:
- " رزق " أن لم تأتني بلعبة لن أكلمك بعد اليوم.
خرجتُ من البيت..
دخلنا المدرسة..
دخلنا الفصل..
بدأنا الدرس الأول..
ثم الدرس الثاني..
ثم الثالث..قاطعه بوق إسعافات.. وهتافات .. انتفضتْ الشوارع.. وانتقل الخوف إلى قلوب زميلاتي، أخذنا بالصراخ ومعلمتنا تطمئنا بأن كل شيء على ما يرام .. أصوات رصاصات .. وطائرات ..اقتربت الهتافات ...
أتى أمر بإخلاء المدارس ، شعرت بخوف ، رأيتُ صديقاتي يبكين لكني رغم خوفي اتخذت قرار بألا أبكي ؛ فقد تعلمتُ من أبي أن الإنسان يجب أن يكون سيد الموقف ورغم الذعر المحيط كنتُ سيدة موقفي فهزمتُ الخوف في نفسي وأخذت أطمئن صديقاتي.. خرجنا من المدرسة بحثت بين الوجوه المذعورة عن أختي .. لم أجدها .. وجدتُ ابنة جيراننا .. رافقتني للبيت
دخلت بيتنا كل شيء صامت ..
لم يعد أحد من أخوتي بعد..
طالعت حناناً وأماناً في عيني أمي ، ركضتُ باتجاهها .. ألقيتُ بنفسي في حضنها وانفلت مني الخوف والفزع كأنه احتبس هناك لأفرغه في حضنها. احتضنتها وأفرغت كل خوفي على صدرها ..واحتضنتني هي بقوة ، التصقتً بها حتى سمعتُ نبضاتها .. رغم هدوء ملامحها شعرت باضطراب نبضها . وصلت أختي ثم أحد أخوتي كان الفزع و التلعثم يغطي وجوه الجميع وأخذ هو يسأل عن أبي ، جزعت أمي ، هرعت إليه تسأله عن باقي أخوتي .. كانوا سبعة، احدهم في السجن وستة خارج السجن لكن الموت يحاصرهم في كل لحظة . سألتْهُ عنهم جميعاً كلٌ باسمه أجابها أنهم كلهم بخير ..أتى أخي الأكبر سناً:
- أمي ..أين أبي ؟
كانت ملامحه أكثر فزعاً ..سألتْهُ أمي :
- ماذا هناك؟ ماذا حدث ؟؟
أجاب أخي :
- لاشيء ، فقط أريد أبي ؟
أمي :
- ابحث عن أخوتك .. اليوم هناك مسيرات كثيرة و إطلاق نار كثيف
أحضر أخوتك..
كانت تأمرهُ وهي تدرك انه لن يحضر أخوتي بل سيلحق بهم ليشارك في المعركة...كانت أمي على يقين أنهم جميعا سينزلون الشارع لأنها هي مَنْ ربتهم على أن حب الوطن والموت لأجله شرف .. فبرغم عشقها لأبنائها كان عشق فلسطين أكبر وأعظم..
أجاب أخي :
- أمي اعذريني إنه نداء الوطن .. اليوم تم فتح نفق تحت المسجد الأقصى ولن نصمت هذه المرة ،أمي أرجوكِ إنه الأقصى.
رغم طعم المُر ومذاقه الصعب ، رغم عنف المشاعر ، رغم زلزال
الخوف الذي اجتاحها .. صمتتْ..
خرج أخي بسرعة ، لحقت به أمي لدى الباب .. لدى الباب كان أحد أقربائنا أخبرنا بهلع أن هناك عدد كبير من الشهداء في غزة والضفة الغربية وأن المسيرات اتجهت من قلب مدينتها نحو " مستوطنة كفار داروم" المجاورة للمدينة.
عادت أمي إلى داخل البيت وكانت شفتيها لا تتوقف عن الدعاء.
هي ونحن الصغار فقط داخل البيت ..
أتى ابن عمي من المخيم المجاور سأل عن أخوتي وكان الفزع محتل لكل الوجوه ومتعمق في الملامح. في هذا الوقت دخل أبي البيت ، أخذ أمي إلى غرفتهما من بعيد لمحته يحدثها .. يتسم أبي بالصمت والقوة والصلابة ولكني لأول مرة لمحت في عينيه دمعة ..كنتُ أراقب حركاته وشفتيه وهو يحدث أمي شعرتُ بأن هناك خطب عظيم .. سمعت شهقة أمي فتوقف قلبي شعرتُ برتجافاتها ...أمسك أبي بها وسمعت كلماته الإيمانية وهو يطمئن قلبها.. أخذتُ أشق بسمعي المسافة التي تفصلني عنهما لأعرف ما يدور داخل الغرفة. استرقتُ الكلمات :
- إصابة خفيفة .. في قدمه.. لا تخشي عليه .. سنذهب لإحضاره .. مستشفى .. ابقي في البيت .. لا تقلقي ..
دخلتُ الغرفة بسرعة سألتُ :
- أمي أبي مَنْ الذي أصيب ؟؟!!
أبي :
- لا شيء .. اذهبي عند أخوتك.
لم استجب مرة أخرى ناديت :
- مَنْ الذي أُصيب ؟؟
أجابت أمي بصوت متقطع متهدج :
- " رزق " أصيب في قدمه لا تخشي عليه.
في نفس هذه اللحظة دخل أخي الكبير وكان هادئ الطبع وقور ..
استند إلى الحائط وعينيه تملؤها الدموع ولأول مرة أراه منهزم
نظرت إليه أمي كانت نظراته ودموعه كفيلة بأن تمسح كل كلمات الاطمئنان التي بثها أبي في قلبها منذ لحظات.
اتجهت أمي إليه ، أمسكته بقوة واستحلفته :
- بالله عليك ماذا حدث لأخيك ؟؟.. أين " رزق" ؟؟ ماذا حدث له؟؟
كنت أتابع بركان الفزع والخوف الذي اجتاح البيت . كان قلبي يشتعل فالصغار دوماً يستمدون الأمن والاطمئنان من الكبار لكن اليوم الكل فزع..مازالت أمي تستحلفهم :
- بالله ماذا حدث؟
جاء صوت أخي مبحوحاً ، مقتولاً ، مسلوباً:
- لقد قتلوه.. قتلوه.. " رزق " استشهد يا أمي .. استشهد..
كان اللفظُ صعباً ثقيلاً أكبر من أن تحتمله تلك المرأة الصبور التي قضت عمرها زائرة للسجون ومتخفية في قلب العراء من أجل وطنها ومن اجل أبنائها الثوار .. وفي تلك اللحظات كان ابنها داخل السجن مسجونا مدى العمر .. لكن هذا الخبر كان أكبر ..كان أقسى .. انفطر قلبها وانفطر قلبي الصغير معها ..
رغم صغري تذوقتُ مرارة الألم ولم أرَ في بيتنا من قبل دموع مثل تلك الدموع..في ذاك اليوم الكل موجوع... بكت آمي .. بكى أبي .. بكى أخي..بكينا جميعا البطل الذي فدى الله بدمه ونصر أرضنا .. نصر قدسنا .. نصر أقصانا..
هبَّ مع الآلاف.. دخل المستوطنة يتسلح بإيمانه بالله وبحقه ، و في يديه حجارة .. اقترب من المستوطنة..اقترب أكثر..صار الأقرب إلى الموت من أصدقائه.. يملأ عينيه إصرار وعزيمة .. و يملأ يديه كوم حجارة .. مازال يقترب ..أكثر .. فأكثر ..لا يفصله عن الموت سوى خمسة أمتار .. شقت الرصاصات الهواء ..أصيب أصدقاؤه ..لم يتراجع .. ففي تلك اللحظات يموت الخوف في قلب المقاتل ويموت الفزع ويُولد شعورٌ جديدُ لا يعرفه إلا مَنْ صار هو والموت رفيقاً .. شعور اسمه التحدي والإصرار .. كثيفة صارت الرصاصات مرة أخرى شقت الهواء ..اخترقت جسده وبطنه ..لكنه لم يأبه شعر بالأمان .. شعر بالحرية .. شعر بالجنة تلفه .. رمى آخر حجارته قذفها بقوة .. ثم سقط.......... عانقت دماؤه التراب .. حُمل على الأكتاف شعر بالشمس تصافح وجهه وجسده .. رأى مكانه في الجنة ... فابتسم.
الآن فقط أدرك لماذا شعر منذ الصباح أن هذا اليوم مختلف ...!!
أتوا به للبيت .. دخلت عليه أمي .. كان وجهه مبتسم .. وقفتُ أنا أطالع الموقف ..اشتد النحيب في أرجاء البيت والشارع والحي بأكمله .. واشتد الحقد في صدري .. من يومها لم أعد طفلة بل كبرتُ عقودا وأعوام..
ولم يعد للطفولة في بيتنا مكان..
العجيب الغريب أنه عندما أنزلوا جسده الطاهر داخل البيت لتوديعه سقطت قطعة النقود تلك من جيبه .. دارت في الغرفة وتدحرجت بين الأقدام واستقرت بين قدمي ابنته .... فعلمتُ وقتها أنها لم تكن من حقي بل من حق ابنته ....
حملوه أخوتي على أكتافهم وأبي يتقدمهم وملايين البشر من حولهم واتحد الهتاف :
- " لا إله إلا الله.. والشهيد حبيب الله..
في سبيل الله قمنا نبتغي رفع اللواء
فليعد للدين مجده ولترق منا الدماء
فليعد للأقصى طهره ولترق منا الدماء...
في سبيل الله قمنا نبتغي رفع اللواء.."
جرى الحدث وانتهى وفي قلوبنا لم ينتهِ ودماء كل الشهداء لن تذهب سدى...
كان يا ما كان ... كان هناك ذكرى مرّت عبر عقل مَنْ كانت
يوم طفلة .. أخذها أخوها ليشترى لها لعبة ..
طوال الطريق وعقلها مشتت لا يشغله من الدنيا غير شكل
اللعبة ، ماذا سأختار ؟ ؟ أي لعبة ؟؟
وأخوها يدللها ويُذكرها بأسماء أكثر من مئة لعبة.. عروسة أم
حصان.. أرجوحة أم سفينة وقبطان؟؟
وفي جُم الدلال والولهان ... اخترقت رصاصة قلب أخيها الإنسان...!!
سكت اللسان .. وحُفر الكلام في الوجدان ..
كان يا ما كان ... كانت طفلة ذاهبة لإحضار لعبة فإذا بها
تحضر أكفان....!!
أهدأ أيها القلب الصغير.. فرحمة الله على الفقيد ، لم يشترِ
لها لعبة لكنه منحها شفاعة سترافق بها الرحمن..
حتى الآن لا أعلم ماذا كنتُ سأختار عروسة أم حصان ..
أرجوحة أم سفينة وقبطان..؟؟!!
اليوم ما زلتُ أسأل عقلي بعد أن أصبحتُ أبلغ من العمر
ربع قرن وعام وأشهر وأيام ..ماذا كنتُ سأختار ....؟؟!!
فتجيب الأيام ...
ما أتعسك يا رفيق الحرمان !
هل للفلسطيني خيار غير الأكفان ؟؟؟؟!!!
زينة زيدان